فصل: بصيرة في التقوى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بصيرة في التقوى:

وهى مشتقَّة من الوِقَايَة، وهى حفظ الشيء ممّا يؤذيه، ويضرّه.
يقال: وقاه وَقْيًا ووِقاية وواقية: صانه.
والتَّوقية: الكلاءَة، والحفظ.
وقيل: الأَصل فيها وِقاية النِّساءِ التي تستُر المرأَةُ بها رأْسها، تقيها من غبار، وحرّ، وبرد.
والوِقاية: ما وقيت به شيئًا.
ومن ذلك فرس واق: إِذا كان يَهاب المشىَ من وجَعٍ يجده في حافره.
فأَصل تقوى: وَقَوى، أَبدلت الواو تاءً؛ كتراث، وتجاه.
وكذلك اتَّقى يتَّقى أَصله: اوتقى، على افتعل.
فقلبت الواو يَاءً، لانكسار ما قبلها، وأُبدلت منها التَّاءُ، وأُدغمت.
فلمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهَّموا أَنَّ التَّاءَ من نفس الكلمة، فجعلوه تَقَى يَتَقى، بفتح التَّاءِ فيها.
ثمّ لم يجدوا له مثالًا في كلامهم يحلقونه به، فقالوا: تَقَى يَتْقِى مثل قضى يقضى.
وتقول في الأَمر: تَقِ، وفي المؤنَّث تَقِى.
ومنه قوله:
زيادَتنا نعمانُ لا تقطعنها ** تق الله فينا والكتاب الذي تتلو

بنى الأَمر على المخفَّف، فاستغنى عن الأَلف فيه بحركة الحرف الثانى في المستقبل.
والتَّقوى والتُّقى واحد.
والتُّقَاةُ: التقِيّة.
يقال: اتَّقى تقِيّة، وتُقَاةً.
قال الله- تعالى-: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.
والتَّقِىّ: المتَّقى، وهو مَن جعل بينه وبين المعاصى وِقاية تحول بينه وبينها: من قوّة عزمه على تركها، وتوطين قلبه على ذلك.
فلذلك قيل له: متَّقٍ.
والتَّقوى البالغة الجامعة: اجتنابُ كلّ ما فيه ضرر لأَمر الدين، وهو المعصية، والفضول.
فعلى ذلك ينقسم على فرض، ونفل.
وقد ورد في القرآن بخمسة معانٍ:
الأَوّل: بمعنى الخوف والخشية: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} وقال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولهذا نظائر.
الثانى: بمعنى الطَّاعة، والعبادة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}.
الثالث: بمعنى ترك المعصية، والزَلَّة: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أَى اتركوا خلاف أَمره.
الرّابع: بمعنى التَّوحيد والشَّهادة: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا}.
الخامس: بمعنى الإِخلاص، والمعرفة: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}.
وأَمّا البِشَارَات التي بشَّر الله تعالى بها الْمُتَّقِين في القرآن فالأَوّل: البشرى بالكرامات: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى}.
الثانى: البشرى بالعون والنّصرة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ}.
الثَّالث: بالعلم والحكمة: {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}.
الرّابع: بكفَّارة الذّنوب وتعظيمه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
السّادس: بالمغفرة: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
السّابع: اليُسْر والسّهولة في الأَمر: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.
الثَّامن: الخروج من الغمّ والمِحنةِ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}.
التَّاسع: رزق واسع، بأَمن وفراغ: {َيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}.
العاشر: النَّجاة من العذاب، والعقوبة: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ}.
الحادى عشر: الفوز بالمراد: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ} {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}.
الثانى عشر: التَّوفيق والعصمة: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إِلى قوله: {وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}.
الثالث عشر: الشهادة لهم بالصدق: {أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
الرابع عشر: بشارة الكرامة والأَكرمية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
الخامس عشر: بشارة المحبّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
السّادس عشر: الفلاح: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
السّابع عشر: نيل الوصال، والقُربة: {وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}.
الثامن عشر: نيل الجزاء بالممحنة: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
التَّاسع عشر: قبول الصّدقة: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
العشرون: الصّفاء والصّفوة: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
الحادى والعشرون: كمال العبودية: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.
الثانى والعشرون: الجنَّات والعيون: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
الثالث والعشرون: الأَمْن من البليّة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}.
الرابع والعشرون: عزّ الفوقيْة على الخَلْق: {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
الخامس والعشرون: زوال الخوف والحزن من العقوبة: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
السادس والعشرون: الأَزواج الموافِقة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} إِلى قوله: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}.
السّابع والعشرون: قُرب الحضرة، واللِّقاءِ والرّؤية: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تنبيهٌ على شدّة ما ينالهم وأَن أَجدرَ شيء يتَّقون به من العذاب يوم القيامة هو وجوههم.
فصار ذلك: كقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ}.
وقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} أَى أَهل أَن يُتَّقى عقابُه.
ورجل تقِىّ من أَتقياء وتُقَواء. اهـ.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: محل {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع {لاَ رَيْبَ فِيهِ} {لذلك} أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبرًا عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقًا في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحًا، وأن يقال: إن قوله: {الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و{ذلك الكتاب} جملة ثانية، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثالثة و{هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذًا بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جرًا إلى الثالثة، والرابعة.
بيانه: أنه نبه أولًا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينًا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكرًا. اهـ.

.قال الخازن:

والمتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف وقيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور وبعض المباحات قال ابن عباس: المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين، يقال: اتقى بترسه إذا جعله حاجزًا بينه وبين ما يقصده وفي الحديث: «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم» معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجزًا بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه حاجزًا بينه وبين النار وقيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيرًا من أحد.
وقيل: التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض.
وقيل التقوى ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة.
وقيل: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك وقيل: التقوى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي الحديث: «جماع التقوى في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية» وقيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وخص المتقين بالذكر تشريفًا لهم، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز، لأنهم هم المنتفعون بالهداية، ولو لم يكن للمتقين فضل إلاّ قوله تعالى: {هدى للمتقين} لكفاهم. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز: {ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}:
مقدمة:
اعلم! أن من أساس البلاغة الذي به يبرق حسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الأصلي، وإمداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمع الأودية أو الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقًا وتمثالًا لما قيل:
عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ ** وَكُلٌّ اإلَى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلا: تأمَّل في آية: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} المسوقة للتهويل المستفاد من التقليل بسر انعكاس الضد من الضد. أفلا ترى التشكيك في إن كيف يمد التقليل، والمسّ بدل الإصابة في مسّت كيف يشير إلى القلة والتروّح فقط، والمرتّية والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ {نفحةٌ} كيف تلوِّح بالقلة، والبعضية في من كيف تومئ إليها، وتبديل النكال بالعذاب كيف يرمز اليها، والشفقة المستفادة من الربّ كيف تشير إليها، وقس؟!.. فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة. وقس على هذه الآية أخواتها. وبالخاصة {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} لأن هذه الآية ذُكرت لمدح القرآن وإثبات الكمال له.
ولقد تجاوب وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم ب {الم} على وجه، وإشارة {ذلك} ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في {الكتاب} وتوجيه إثباته ب {لا ريب فيه}. فكلٌ كما يمد المقصد ويلقي إليه حصته يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند إليه من الدليل وإن دقّ.
فإن شئت تأمل في القَسَم ب {الم} إذ إنه كما يؤكد، كذلك يشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ما تحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز إليها.
وانظر الإشارة في {ذلك} المختصة بالرجوع إلى الذات مع الصفات لتعلم أنها كما تفيد التعظيم- لأنها إما إشارة إلى المشار إليه ب {الم} أو المبشّر به في التوراة والإنجيل- كذلك تلوّح بدليلها؛ إذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والإنجيل!.. ثم أمعن النظر في الإشارة الحسية إلى الأمر المعقول لترى أنها كما تفيد التعظيم والأهمية؛ كذلك تشير إلى أن القرآن كالمغناطيس المنجذب إليه الأذهانُ، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍ على الاشتغال به. فتظاهر بدرجة- تراه العيون من خلفها إذا راجعت الخيال- يرمز بلسان الحال إلى وثوقه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيين إلى التستر، ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من {ذلك}؛ إذ إنها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ إلى دليله بأنه بعيد عن ما سلك عليه أمثاله. فإما تحت كلٍ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكل.
ثم تدبر في (ال) {الكتاب}؛ لأنها كما تفيد الحصر العرفي المفيد للكمال؛ تفتح باب الموازنة وتلمِّح بها إلى أن القرآن كما جمع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها.
ثم قف على التعبير ب {الكتاب} كيف يلوّح بأن الكتاب لايكون من مصنوع الأمّيّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.
أما {لاريب فيه} ففيه وجهان:
إرجاع الضمير إلى الحكم، أو إلى الكتاب: فعلى الأول- كما عليه المفتاح:
1- يكون بمعنى يقينًا، وبلا شك، فيكون جهة وتحقيقا لإثبات كماله.
وعلى الثاني- كما عليه الكشاف.
2- يكون تأكيدًا لثبوت كماله.
وعلى الكل يناجي من تحت {لا ريب} ب {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} ويرمز إلى دليله الخاص.
والاستغراق في {لا} بسبب إعدام الريوب الموجودة ينشد:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ** وَافَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

ويشير إلى أن المحل ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ إذ أقام على الثغور أمارات تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.
وفي ظرفية فيه والتعبير بفي بدل أخواتها إشارة إلى إنفاذ النظر في الباطن. وإلى أن حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.
فيا من آنس قيمة التركيب من جانب التحليل، وأدرك فرق الكلّ عن كلٍ! انظر نظرة واحدة إلى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌ حصته إلى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.
اعلم! أنه لم يربط بين جمل {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍ بحجز سابقتها وذيل لاحقتها. فإن كل واحدة كما أنها دليلٌ لكلٍ بجهة؛ كذلك نتيجة لكلِ واحدة بجهة أخرى. ولقد انتقش الإعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة.
إن شئت التفصيل تأمل في هذا: {الم} فانها تومئ بالمآل إلى: هذا متحدًّى به، ومن يبرز إلى الميدان؟ ثم تلوح بأنه معجز.
وتفكر في {ذلك الكتاب} فإنها تصرح بأنه ازداد على إخوته وطمَّ عليها. ثم تلمح بأنه مستثنى ممتاز لا يماثل.
ثم تدبر في {لاريب فيه} فإنها كما تُفصح عن إنه ليس محلا للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين.
ثم انظر في {هدى للمتقين} إذ إنها كما تهدى إليك أنه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك أنه قد تجسم من نور الهداية.
فكل منها باعتبار المعنى الأول برهان لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجة لكل منها.
ونذكر على وجه المثال ثلاثا من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:
ف {الم} أي: هذا يتحدّى كل معارض، فهو أكمل الكتب، فهو يقيني؛ إذ كمال الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر.
ثم {ذلك الكتاب} أي: هو ازداد على أمثاله فهو معجز- أو- اي: هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لا شك فيه؛ إذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين.
ثم {هدى للمتقين} أي: يرشد إلى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجز، وعليك باستنباط البواقي.
أما {هدى للمتقين} فاعلم! أن منبع حسن هذا الكلام من أربع نقط:
الأولى: حذف المبتدأ، إذ فيه إشارة إلى أن حكم الاتحاد مسلَّم. كأن ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لا تغاير بينهما في الذهن أيضا.
والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، إذ فيه رمز إلى أن نور الهداية تجسَّمَ فصار نفس جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحمرة فيصير قرْمِزًا.
والثالثة: تنكير {هدى} إذ فيه إيماء إلى نهاية دقة هداية القرآن حتى لا يُكْتنه كُنْهها، وإلى غاية وسعتها حتى لا يُحاط بها علمًا. إذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الإحاطة. ومن هنا قد يكون التنكير للتحقير وقد يكون للتعظيم.
والرابعة: الإيجاز في {للمتقين} بدل الناس الذين يصيرون متقين به أوجز بالمجاز الأول إشارة إلى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزًا إلى البرهان الإِنِّيّ على وجود الهداية. فإن السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقه.
إن قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟
قيل لك: إن في التعاون والاجتماع سرًا عجيبًا. لأنه إذا اجتمع حسنُ ثلاثة اشياء صار كخمسة، وخمسة كعشرة، وعشرة كأربعين بسر الانعكاس. إذ في كل شيء نوع من الانعكاس ودرجة من التمثيل. كما إذا جمعت بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياء كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كل صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلًا فطريًا إلى أن ينضم إلى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حسنًا إلى حسنه. حتى أن الحجر مع حَجَريته إذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدب يميل ويُخضع رأسَه ليماسّ رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالانسان الذي لايدرك سر التعاون لهو أجمد من الحجر؛ إذ من الحجر من يتقوس لمعاونة أخيه!.
إن قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في أمثال هذه الآية اختلفوا اختلافًا مشتتًا، وأظهروا احتمالات مختلفة، وبينوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟
قيل لك: قد يكون الكل حقًا بالنسبة إلى سامعٍ فسامعٍ؛ إذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة، وذوقَه يتفاوت جهة جهة، وميلَه يتشتت جانبًا جانبًا، واستحسانه يتفرق وجهًا وجهًا، ولذته تتنوع نوعًا نوعًا، وطبيعته تتباين قسما قسما. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل اليها طبقة. وقس!
فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الأفهام المختلفة ليأخذ كلُ فهمٍ حصته. وقس!.. فإذًا يجوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها علوم العربية، وبشرط أن تستحسنها البلاغة، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.
فظهر من هذه النكتة أن من وجوه إعجاز القرآن نظمه وسبكه في أسلوب ينطبق على أفهام عصر فعصر، وطبقة فطبقة. اهـ.